مفهوم الوحي في المسيحية فهو كالآتي:
أ - يختار الله بعض القديسين ويُحرِك قلوبهم للكتابة، وقد يأمرهم مباشرة كما قال لموسى "فقال الرب لموسى اكتب هذا التذكار.." (خر 14:17) وكما قال لأرميا "خذ لنفسك دَرْج سفر واكتب فيه كل الكلام الذي كلمتك به.." (ار2:36)
ب- يترك الله للكاتب حرية اختيار الألفاظ والأسلوب والكلمات، فلذلك نجد الأسلوب يختلف من كاتب لآخر، ولكن بدون أي تناقض أو تضارب بل في انسجام كامل وتوافق تام فنري داود النبي يكتب بلغة الراعي، وسليمان بلغة الحكيم، وبولس بلغة الفيلسوف وهكذا، وفي نفس الوقت يساعده على انتقاء الألفاظ المناسبة.
ج - يكون الكاتب أثناء الكتابة تحت هيمنة وسيطرة روح الله الذي يحفظه ويعصمه من الخطأ أثناء الكتابة.
د - يكشف روح الله للكاتب ما خُفي عنه مثلما كشف لموسى عن أيام الخليقة.
ونشكر الله أنه لا يوجد في كتابنا المقدَّس آيات تنسخ آيات أخرى فتصبح الآيات المنسوخة عاطلة بلا فائدة، ولا يأتي الله بتشريع ويلغيه بتشريع آخر ولكن الله يتدرج بالبشرية من مرحلة لأخرى في طريق الكمال والملكوت.
والوحي لا يتقيَّد بلغة معينة إنما يستخدم اللغة التي يستخدمها الشعب، فعندما كانت لغة شعب الله هي اللغة العبرية جاءت كتابات العهد القديم بهذه اللغة، وعندما بدأ الشعب يتكلم الآرامية ويصعب عليه فهم العبرية جاءت بعض الكتابات باللغة الآرامية. كما كانت تقرأ الأسفار المقدسة باللغة العبرية وتترجم فورًا للآرامية، ثم ظهرت ترجمات مكتوبة بالآرامية وهي ما دُعيت بالترجوم، وكُتِب العهد الجديد باللغة اليونانية التي كانت سائدة في ذلك الزمان.. إذًا الوحي لا يتمسك بلغة معينة ولا يفضل لغة على أخري، ولا ننسى أن تعدد اللغات وبلبلة الألسن جاءت نتيجة لخطية الإنسان وعدم إيمانه بوعد الله أنه لن يجلب طوفانًا فيما بعد، ولا ننسى أيضًا ان قصد الله أولًا وأخيرًا ان الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون، ولذلك أوصى تلاميذه أن يذهبوا ويكرزوا للعالم أجمع وأعطاهم أن يتكلموا بلغات مختلفة، ولم يضع الله ثقلًا على الإنسان لا يستطيع القيام به، فمثلًا لم يوصي أنبياءه بالكتابة باللغة العبرية فقط وحظر عليهم الترجمة، وفرض على كل من يريد أن يعرفه أن يتعلم العبرية أولًا.
ويقول الأنبا أثناسيوس المتنيح مطران بني سويف والبهنسا "الوحي طاقة وليس شكلًا، ويمكننا أن نشبهه بالتيار الكهربائي الذي يسري في الأسلاك، وإن كانت العيون لا تراه إلاَّ في ضوء المصباح. الوحي هو الطاقة الحيَّة وليست المصباح المُحدَّد الشكل، فقد تُغيّر المصباح من شكل أنبوبة مستطيلة إلى كرة صغيرة ، ومن اللون الأبيض إلى الأزرق أو الأحمر، والطاقة كما هي لا تفقد صفتها.. إنها كلمة الله مهما تغيرت العبارة، فلو قلنا مثلًا".. هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد.." (يو 16:3) بتركيبات أخرى لظلت هذه الآية كما نقول " أحب الله العالم إلى درجة أنه بذل ابنه.. " أو " بهذا المقدار أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد".. أو غير ذلك الكثير في اللغة العربية أو مئات التعبيرات في اللغات الأخرى.. الوحي قوة تملأ فكر وحس الرسول فينطق به بلغة البشر.. الروح إذًا يضبط الرسول في التعبير " مسوقين" (2بط 21:1) ويحفظه من الخطأ ويعصمه من الذات، فتجئ التعبيرات في لغة البشر ولكن الروح هو القوة الفعالة فيها"(1).
0 التعليقات:
إرسال تعليق